الخشوع في الآخرة
من مشاهد القيامة:
قال عز من قائل: [خشّعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر] القمر ـ 7.
وقال: [خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون] المعارج44.
وقال: [وخشِعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً] طه ـ 108.
وقال أيضاً: [وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي] الشورى ـ 45.
الخضوع هو الخضوع والذل والانكسار القلي والبدني، بخلاف الخضوع الخالي عن الخشوع القلبي الذي هو بمعنى التواضع. في هذه الآيات الشريفة يصف الله سبحانه حال الخلائق يوم القيامة في واحد من المشاهد العديدة التي يستعرضها القرآن الكريم ضمن بعض السور القرآنية الكريمة.
فحين خروجهم من قبورهم يكونون في خشوع وذل وانكسار ولكثرتهم شبههم الخالق العظيم بالجراد الزاحف المنتشر الذي يعجز الإنسان عن عده وحصره، هذا ما تذكره الآية الأولى.
وفي الآية الثانية يصفهم الله تعالى مضافاً لخشوع الأبصار والقلوب بأن الذل يرهقهم ويغشاهم ويسيطر عليهم فلا يشاهدون غيره.
وفي الآية الثالثة: يصف المولى سبحانه خشوع الأصوات بحيث لا يصدر منهم التلفظ بالكلمات. فلم يقتصر خشوعهم على القلب والبدن وإنما يضاف لذلك خشوع الأصوات، فلا تسمع لهم صوتاً، وإنما يقتصرون على الهمس بالإشارة والحركة الخفية، وذلك من عظم ما يرونه ويشاهدونه، والخوف الحقيقي من المصير البائس الذي يتوقعونه.
وفي الآية الرابعة: يصفهم سبحانه بحالتهم الغاية في البؤس والذل والخشوع القلبي والانكسار حينما يعرضون على النار التي كانوا يكذبون بها في الدنيا، وقد تحقق لهم صدق الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله تعالى فلم يكن لديهم حجة ولا اعتذار، وقد استسلموا مكرهين لنزول العذاب وشر المآب.
والقرآن الكريم حينما يستعرض لنا مثل ذلك المشهد العظيم، وتلك الحالة التي لا بد من وقوعها وتحققها، إنما يهدف من وراء ذلك لتحريك ضمائر المؤمنين ومشاعرهم وقلوبهم لتتعمّق في قلوبهم صفة التقوى بأجلى صورها، وأفضل درجاتها لكي يزداد شوقهم إلى طاعة الله عز وجل وما يقربهم منه، ويزداد خوفهم من الاقتراب لكل معصية لربهم ولكل ما يبعدهم عن ساحة عفوه ومغفرته ورضوانه.
وبعد هذا العرض نعود إلى أنفسنا ـ نحن المؤمنون بالقرآن الكريم، الوحي الإلهي الصادق، والذي وصفه رب العالمين بقوله سبحانه: [وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد] فصلت 41 ـ 42.
فهل تؤثر أثرها المطلوب مثل هذه الآيات الشريفة؟ وهل تتفاعل نفوسنا معها؟ وتدخل في قلوبنا الرهبة والخوف والوجل من سوء العاقبة؟ ومن الخروج من هذه الحياة ونحن نحمل بعض الأوزار والذنوب التي تباعدنا عن ساحة رحمة الخالق العظيم؟
وهل إذا دخل الخوف في قلوبنا من تصور تلك المشاهد الحقة نفزع إلى الله سبحانه بالتوسل والدعاء ليعيننا على أنفسنا في هذه الدنيا دار الفناء والزوال، والفتنة والابتلاء والاختبار، وندعو الله تعالى بأن يجعل في قلوبنا خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار، كما أثر مثل ذلك القول عن إمامنا علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام في أسحار شهر رمضان حيث يقول: "اللهم إني أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار" مفاتيح الجنان.
وهل تتحرك فينا الهمة والعزيمة للتوبة من ذنوبنا الماضية والمستقبلية حين حدوثها؟ ونقلع هن الأخطاء والعيوب فيما بين أنفسنا وتجاه الآخرين، أم تسيطر على قلوبنا الغفلة وطول الأمل في حياتنا، فلا نفكر إلا بمصالحنا الخاصة، ولا نهتم إلا بمنافعنا العاجلة، حتى إذا جاءنا الموت فجأة وبغتة فزعنا إلى ربنا، وتضرعنا إلى خالقنا، وندمنا على ما فاتنا من عمرنا، وما صدر منا من ذنوب وأخطاء حيث لا يسمع الدعاء، ولا تنفع الندامة ولا التوبة.
قال الحق تبارك اسمه: [استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذٍ وما لكم من نكير] الشورى ـ 47.
وقال جل شأنه: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم] الزمر ـ 35.
وقال جلت عظمته: [إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليما] النساء ـ 17 ـ 18.